سفر الخروج : العشاء الأخير !!
” الساخر كوم ”
سأتصل وأخبرهم بذلك !
كلا ، لن أتصل !
فأنا لست مسئولا عن الأرقام السرية لسلاح نووي !
يجب أن أتوقف عن إعطاء الأمر كل هذه الأهمية !
فقط عد إلى النوم وتأكد أن هذا العالم سيستمر تماما كما لو كنت مستيقظا !
وأنك لن تصلب لغيابك عن العمل دون عذر !
كانت هذه الأفكار التي تراودني وأنا على سريري ، بعد أن أيقظني أسوء وأقبح شيء في غرفتي .. المنبه !
ومثل ما ينتهي دوما هذا الحوار الغبي بيني وبيني ،
ارتديت ملابسي ، ووضعت من العطور ما يكفي لكي أحتل أنوف الآخرين !
وأدرت محرك السيارة ، وجلست أحدق في بيوت شارعنا التي ليست مضطرة للذهاب إلى العمل .. !
حتى رأيتها تخرج !
مرتبكة ،
خائفة من شيء ما لا تعرفه ، لكنها تشعر به !
قدمها بالكاد تلمس الأرض ، كأنها تخشى من البلل !
تخطو خطوة ، ثم تعيد النظر إلى هناك ..
إلى الباب الموارب ،
حيث الكف التي تشير إليها بالتقدم لأنه لا بد من ذلك !
كانت خطوتها الصغيرة تقص شريطا جديدا من أشرطة العمر!
وضعت قدمها على عتبة الحافلة ، وكانت اللحظة الفاصلة
بين كل الأشياء التي تعرفها ، وبين العالم الجديد ..!
حيث الوجوه والأسماء التي ليس من بينها وجه الجدة أو الأم والأب ..
ولا “عمي محمد” !
كان ذلك هو اليوم الدراسي الأول لـ “ريوم”* !
فاحت في المكان رائحة الطبشور !
سرت في عظامي رعشة الطابور!
وعادت كل الأشياء التي حسبتها غابت !
جدول الحصص
أسماء المدرسين
وجوه زملاء الدراسة !
وشيئا قديما يشبه “الوشم” في قلبي يدعى :
” خانة توقيع ولي الأمر ! “
لا شيء أكثر وجعا في قلب اليتيم من أن يعيد شهادته دون توقيع ولي الأمر !
يجب أن تتوقف المدارس عن مثل هذا التعذيب !
كانوا يقتلون أبي مرة في كل شهر ! فأدفنه بين أسماء المواد والدرجات في جنازة لا يمشي فيها سواي !
الأكثر إيلاما من غياب أبيك ، أن يذكرك الناس في كل مرة أنه غائب !
وهذا ما يفسر “عقدة التوقيع” لدي !
فكثيرا ما ألقيت “القبض علي” وقد ملأت ورقة فارغة بتواقيعي ، وبالحجم الكبير !
كانت صرخة بأثر رجعي في وجوه المدرسين ، ومحاولة لملأ “الخانات” التي ما زالت في القلب وفي الذاكرة !
هذا صباح مختلف ،
“ريوم” أصبح لديها حقيبة .. دفتر وقلم !
ابتسمت ..
وانغرست في قلبي شوكة !
إنني أكبر وأصبح “أغبر” كل يوم !
تعتادني نفس الفكرة
أن أفعل كما تفعل ربات البيوت ، حين يقمن بتعليق سجاد بيوتهن على “البلكونة” ثم ينفضن الغبار بالمقشات !
أحتاج إلى بلكونة ومقشة كبيرة لأنفض كل هذا الغبار والتعب عن قلبي !
أحتاج إلى أكثر من هذا ..
أحتاج إلى أثاث جديد ، وتغيير كثير من المقاعد التي هجرها من أعدت لهم !
صوت لا أعرف من أين .. يحدثني
” البداية تشبه النهاية وهذا هو سر الحكاية !
ولو تأملت الدوائر لفهمت المعنى من كل هذا !
وإن لم ترَ الأشياء على حقيقتها هذا الصباح فلن تراها أبدا !
وإن لم تكتب شيئا هذا الصباح فلن تكتب أبدا ! “
أتوقف عند المحطة لتزويد سيارتي بالوقود ،
ولا أعرف أين يجب أن أذهب لملأ روحي بالوقود ؟!
إنني أنضب .. وسأتوقف عن العمل قريبا !
أتأمل عامل المحطة “أبو بكر” الذي لا يتوقف عن الابتسام وكأنه أحد ملوك الأرض !
رغم أنه ليس سوى عامل بسيط ، تذوب أجمل سنين عمره تحت شمس جزيرة العرب من أجل “حفنة ريالات” !
هذه الدنيا عجيبة ..
الذين يعرقون “الأكثر” يجنون “الأقل” !
والذين يجنون “الأقل” يبتسمون “الأكثر” !!
أتذكر سنوات المصنع ..
حيث كنت أنا الآخر عاملا ، يجب أن ينظف منطقته قبل انصرافه !
أيضا من أجل “حفنة ريالات” !!
أفهم الآن جيدا كيف أن أي ثورة يكون وقودها عمال المصانع !
وأن قناع هذا العالم يسقط ،
ويظهر وجهه الحقيقي في المصانع .. وفي عرق العمال !
ينقر زجاج ذاكرتي بلطف وجه رجل يدعى “بهادور” !
كان وردة نبتت في جدران المصنع ،
كان غلطة مطبعية في هذا المكان !
أتذكر ذلك الصباح جيدا ، حين كان يشير إلى أن آتي إليه
لم يكن يتحدث العربية ولا الانجليزية ، وكان حديثنا فقط بالإشارة !
كان من الواضح أنه يريدني لشيء مهم ، لا يحتمل التأخير !
اصطحبني إلى دُرجه القريب من الماكينة التي يعمل عليها ، أخرج كيسا بلاستيكيا ملفوفا بعناية ..
أخرج ما بداخله .. وكانت تفاحة !
شعرت وكأنني أهوي في مصعد إلى شيء أبعد جدا من القبو !
عامل مصنع لا يتجاوز راتبه 300 ريال ، يقوم باقتطاع شيء من ماله كي يشتري لك تفاحة لأنه يراك نحيلا ويجب أن تأكل !
عامل مغترب حين يريد إجراء مكالمة هاتفية مع أهله يضطر لإلغاء وجبتي طعام !
يجب أن يتوقف الطعام عن الدخول عبر فمه ، كي تستطيع مشاعره الخروج عبر نفس الفم !
صراع آخر وشوط جديد .. بين الجسد والروح !
وكان ينتصر لروحه !
كبائن الاتصال هي أصدق ما تبقى في هذا العالم التقني !
كمية الحزن والصدق التي تفوح من كبائن الاتصال ، كافية لغسيل الكثير من القبح الذي ينتشر في هذا الكوكب !
جرب فقط أن تتصل من كبينة اتصال وستشعر أن روحك أصبحت “أنظف” !
وهذا ما أفعله في كل مرة أسافر فيها ..!
رغم أنني لست مضطرا للتخلي عن أي وجبة !
وما زلت بين الحين “والحنين” أذكر “بهادور”
أراه في عمال المحطات
أتذكره فجأة دون مقدمات ،
حين يتعطل التكييف ويعرق جبيني !
أو حين أقضم تفاحة !!
في المصنع ..
لم نكن نحلم بأكثر من ارتداء ثوب ، شماغ وعقال !
أن يكون لكل منا تحويلته الخاصة ، وأن يكون بمقدورك وضع عطر قبل ذهابك إلى العمل !
فالتفكير في وضع عطر في هذا المكان هو نكتة سمجة لا يضحك منها ولا يتقبلها أحد !
فالعرق هو سيد العطور هنا !
وهذا ما حصلت عليه الآن !
مكتب ، تحويلة خاصة
ثوب وشماغ .. وكثيرا من العطور كافية لاحتلال أنوف الآخرين !
لكن الأمر لم يكن جميلا إلى هذا الحد كما كنا نتصور !
وهذا ما كنت أفكر فيه وأنا أدخل إلى مكان عملي ..!
هذه وظيفتي الخامسة ، وهي الأطول حتى الآن !
أمضيت في هذا المكان ثلاث سنوات وثلاثة أشهر حسب التقويم ، لكنها يوم واحد حسب ما أرى !
لأنها جميعا متشابهة في الملل والرتابة !
أنا أيضا “تتجمد” أجمل سنوات عمري ، في مكتب من أجل “حفنة ريالات” !
وإن كانت أكثر بكثير من ريالات “أبو بكر” ، ومن ريالات المصنع !
نحن لا نعمل ،
فقط نتواطأ مع الوقت كي يمضي وتنتهي فترة “السجن الوظيفي” !
وهذا ما يحدث كل يوم ،
تغيب الشمس فأخلع صفحة التقويم وأغادر المكتب !
لا شيء يصيبني “بالسكتة الفكرية” مثل أذان المغرب !
في اللحظة التي تموت فيها الشمس ، فتشعر أن جميع الأشياء إلى أفول
وأن كل هذا النهار ،
أطفال المدارس
العصافير
زحام الناس ،
مجرد كذبة !
تمسك بتلابيب روحك مئذنة .. تهزك بعنف
تؤكد لك ..
سيبقى “الله أكبر” !
أشعر أنني أتلاشى كالذر.. ويطويني الأثير !
هذا الدين يصيبني بالذهول في عمقه !
يمر في بالي المشهد الذي يقع فيه الأمير “أندريه” جريحا تحت جواد نابليون في رواية “الحرب والسلام”
وكيف كان “أندريه” مأخوذا بشخصية الإمبراطور الفرنسي في ما مضى
لكن الآن وهو ملقى على الأرض والإمبراطور فوقه مباشرة ، كان يحدق في السماء الواسعة .. فشعر بتفاهة نابليون وعظمة السماء !
تماما كما أشعر الآن بتفاهة كل “نابليونات” الأرض .. وعظمة المآذن !
لم تكن لدي رغبة في العودة إلى المنزل ،
فذهبت إلى المقهى !
في المقهى تشعر أنك مع الناس ، لكنك تبقى وحيدا !
تكون قريبا منهم ..
تختلط رائحة قهوتك بدخان سجائرهم ،
وتخدش أصواتهم صيوان أذنك !
وبعيدا جدا ..
تحتضر بينهم ،
تناديهم بكل ما فيك من صمت !
فيواصلون أحاديثهم ، ويبقى كل على طاولته !
المقهى مثل “البلكونة” ..
بقعة مخاتلة تقف على الحافة بين البيت والشارع !
تشعرك بألفة المنزل ، وتصب في أذنك صخب العابرين !
في المقهى فقط وفي البلكونة ، أشعر أنني أجلس في مكاني !
قريبا من الناس .. بعيدا عنهم !
لا أنضم لهم .. ولا أتمرد عليهم !
فقط أراقبهم ، وأمد يدي للغة لعلها تتنازل وتصافحني !
كانت اللغة كريمة معي هذه الليلة !
لمست أطراف أناملي فغادرت المقهى ..
وتركت خلفي فنجان قهوة فارغ ، وورقة مليئة بكلمات تتخبط على السطر كما تتخبط السمكة حين تخرجها من الماء !
كان صدري المالح بحرا لهذه الكلمات ، والآن أمضي وأتركها تلاقي حتفها في الهواء الطلق!
كانت الكتابة لدي أشبه ما تكون بمحاولة لإرشاد الناس إلى مكاني !
مثل ما يفعل الرهينة ، حين يترك في كل مرة ورائه شيئا من أثره ، ليمكن المنقذين من تتبعه وإطلاق سراحه ..!
فكنت أترك خلفي ملامحي والطرق التي أسير فيها !
أتركها على شكل استعارة أو أبيات شعر مبتورة !
ولم يجدني ،
ولا أطلق سراحي أحد !
فعلمت أن الكتابة صرخة تقول فيها للذين سيأتون من بعدك :
” لقد كنت هنا ! “
هذه آثاري ،
هذا حرفي وإحباطي
وهذه الأشياء كما بدت لي وعشتها !
ليس لأنك تريد منهم إنقاذك ،
ولكن كي يعلموا ..
أنك من هنا عبرت ، وتركت خلفك أثرا ومعنى !
وكانت هذه الكلمات هي التي تركتها خلفي هذه المرة :
” هل سبق لك ،
أن عدت من رحلة طويلة
لتجد أن المطر هو من يستقبلك بعد نزولك من الطائرة ..؟
يؤكد لك أن “البلل” هو ما ينتظرك في نهاية المطاف !
وأن العمر رحلة للبحث عن معطف .. ومظلة !
وقبل أن تركب أول سيارة أجرة
تشاهد فتاة صغيرة
حلوة ..
كقطعة سكر تذوب في فنجان القلب !
تناديها دون أن تعرف اسمها
.. يا مريم !!
تقبّلها ..
وتعيذها بالله من الشياطين .. ومنك !
تشتري لها دمية !
يبتسم والدها ،
فتخبره – في صدرك –
” أيها الغريب ..
ليتك تعلم
كم من العمر مضى ،
وأنا أحلم ..
بـجدائل مريم ..! “
لا أعلم هي في يد من الآن ،
أو ربما يكون قد كنسها النادل
مع دخان الكلام وأعقاب الأماني !
لم يكن ذلك يشغل بالي ، فقد تخلصت منها
وكل ما أريده الآن هو العودة إلى المنزل !
كان أول شيء فعلته بعد وصولي إلى المنزل سؤالي عن “ريّوم”
أخبروني بأنها نامت ..
فغدا لديها مدرسة !
ابتسمت ..
وانغرست في قلبي شوكة !
ذهبت إلى غرفتي ، أنا الآخر أريد أن أنام رغم أنه ليست لدي مدرسة !
لكن بعد هذا اليوم الطويل ، كان السرير نهاية منطقية ..
دائرة هذا اليوم قد اكتملت !
“سريرك لو تعلم ..
يشبه التراب ،
خرجت منه في البداية وإليه تعود في نهاية المطاف !
والعمر لو تعلم ..
ليس أكثر من يوم !
يبدأ بالاستيقاظ كما تبدأ الحياة بصرخة الميلاد ،
وينتهي كما تنتهي الحياة ..
مصباح ينطفئ وسرير/ تراب يضمك !! “
.
.
.
كان هذا صوتا يناديني ..
ولا أعلم من أين ..؟!
*ريّوم : أو ريم هي ابنة شقيقي .. وأغنيتي !
Archived By: Crazy SEO .
تعليقات
إرسال تعليق