أفكار .. تقترب من النضوج !

” الساخر كوم ”

لقد فتحنا أبواب الجحيم في العراق
” جاك شيراك “

إن محاولة الكتابة عن المشهد العراقي هي كمحاولة تصدير التمر إلى الإحساء ، فلا تكاد تخلو صحيفة أو مجلة أو نشرة أخبار من الحديث عن العراق ، وحالة الفوضى التي تدب فيه وكأن لم يعرف نظاما ولم تقم فيه حضارة .
وليس من دواعي هذا المقال الحديث عن خسائر القوات الأمريكية ولا وضع صور الدبابات المحترقة والشاحنات التي أصبحت خردة لأن بعض أهل العراق قرروا أن لا يستقبلوا القوات الأمريكية بالورود ، ولا من شأنه الغوص في تفاصيل الحالة العراقية اليومية إلا ما بقدر ما يستلزم البحث من توضيح أو تنبيه لفكرة .
هو اجتهاد في محاولة لفهم إلى أين يمضي ذلك البلد وبمعنى أدق إلى أين تمضي المنطقة لأن العراق شاء أم أبى أصبح محور الأحداث وما يجري فيه له ما بعده .

كل شمس تشرق في بغداد تجعل المشهد العراقي أكثر وضوحا ، وكل محاولات التمويه والتغطية التي تمارسها الآلة الإعلامية الأمريكية أكثر عبثا ، فالمتتبع لأحداث العراق اليومية يلاحظ كثرة الاغتيالات والإقالات لأصحاب المراكز السياسية والأمنية كرؤساء المحافظات ومدراء الشرطة ، بل أن الرئيس العراقي “صدام حسين” قد تعاقب على محاكمته أربعة قضاة !
وإن كان هذا يعكس حالة الفوضى والاضطراب التي تعم البلد فهو أيضا يعكس خصوصية حالة ، حتى أن الرئيس العراقي “صدام حسين” وقبل أن يلقى القبض عليه قال في أحد أشرطته الصوتية أن من يحكم العراق يجب أن يعرف كيميائيته .. ولا أعرف لماذا أحسست في عبارته تلك رنة سخرية عالية !
ليس هذا بالجديد على العراق فتاريخه مليء بمثل هذه الأحداث والاغتيالات والشكاوى من الولاة والأمراء.
ولعلي هنا استشهد بما يروى في الأثر من أن بعض الصحابة افتقد “الفاروق” رضي الله عنه فبحثوا عنه حتى وجدوه خلف المسجد وقد توسَّد كفه وافترش الثرى فسألوه ما بالك يا أمير المؤمنين ؟!
فقال رضي الله عنه (( أرَّقني أهل العراق )) .
كان ذلك “عمر” بعبقريته ورباطة جأشه وقوة شخصيته ورغم ذلك أرَّقه أهل العراق ، ونحن اليوم أمام أحمق الأبناء كما تصفه والدته .. فقارن تربت يداك !
ولا أعرف إن كانت الإدارة الأمريكية قد سمعت بعالم الاجتماع العراقي الكبير “علي الوردي” والذي يصف الشخصية العراقية بـأنها شخصية عدائية الطابع ، فقد ارتكبت قواتها من الحماقات ما يكفي لجعل هذه الشخصية تصل إلى مداها الأبعد وأفقها الأوسع .

لكن وباعتقادي أن الجهل بالشخصية العراقية لم يكن هو السبب الوحيد في التخبط الحاصل في العراق وأن الأمر انعكاس لحضارة ومفاهيم سائدة فهذا الكم من حالات الاغتصاب والتعذيب وإساءة المعاملة التي تسجل في العراق من قبل الجنود الأمريكيين دليل واضح وقوي على الخواء الروحي الذي تتسربل به الولايات المتحدة ، فيكفي أن تعرف أن هناك حالة اغتصاب كل 15 ثانية في أمريكا ، وبإمكانك التخيل كم امرأة تحولت حياتها إلى حطام أثناء قراءتك لهذا المقال !
من نواميس الله أن تهزم أمريكا في العراق فيمكنك احتلال أرض بالسيف والرمح وحوافر الخيل لكن حتما لا تستطيع أن تبقى بالسيف وحده ودون عقيدة تبشر بها أو مذهب تنادي به .. وهذا ما قصر عقل بابا الفاتيكان عن إدراكه فسيوف المسلمين الأوائل لم تكن إلا لإزالة العوائق المادية التي تحول بين الناس وبين معرفتهم لهذا الدين وليس أدل على هذا من بقاء الإسلام إلى اليوم في تلك البلاد المفتوحة رغم أنه لم يعد للإسلام اليوم سيف ولا رمح !
وأمريكا ليس لديها ما تقدمه على المستوى الروحي والإنساني ، بل هي بحاجة فعلية إلى من يأخذ بيدها في هذا الجانب !

فمن نافلة القول لكل راصد ومتابع للمشهد العراقي أن المشروع الأمريكي أو الحلم في العراق أصبح كابوسا وأن الخطط الأمريكية تقلصت وانكمشت إلى حد يجعلها ترضى بالسلامة أو حتى الخروج بأقل الخسائر الممكنة ، وأكثر من يعلم حقيقة هذا الأمر دون شك هو ” الأحمق المطاع ” الرئيس الأمريكي جورج بوش إضافة إلى أركان إدارته العالمين بما يجري فعلا في ذلك البلد .
وسأستعين بمثلين بسيطين لتوضيح الصورة الأول في بغداد أثناء تنظيم ما سمي بالانتخابات حيث نشرت كبريات الصحف البريطانية والأمريكية صورة لـرجل مسلح حاسر دون أي لثام يلاحق رجلا آخرا يحاول الهرب وبعد أن تمكن من الإمساك به طرحه أرضا ، وضع المسدس في رأسه وأرداه قتيلا … حدث هذا في بغداد بوش !
لم يكن “القاتل” سوى أحد رجال المقاومة ، ولم يكن القتيل سوى أحد منظمي هذه الانتخابات !
جرى هذا المشهد في وسط بغداد وفي أكبر شوارعها وفي ساعة الذروة من النهار، وكان واضحا في الصور المنشورة الناس العابرين على أقدامهم وراكبي السيارات !
هذا المشهد أهم وأوضح من كل العمليات العسكرية المصورة التي تنشرها الفصائل المسلحة في العراق على مواقع الانترنت ، فهو يثبت لمن تمعن فيه أن المشروع الأمريكي يُقتل في العراق وفي وضح النهار، وأن المقاومة العراقية أصبحت أوضح من أن يسترها لثام الإعلام الأمريكي ومن يدور في فلكه ، وأن مقاومة تظهر بكل هذا التحدي لا شك قد شبت عن الطوق ولم يعد ممكنا السيطرة عليها ولا تحييدها .
وأترك لكم بعد ذلك حرية التفكير في انعكاسات هذا المشهد على من حدث أمامهم من عراقيين أو من شاهدوه عبر الصحف وكيف سينقلونه للآخرين ، وكيف سيفكر من يحاول الانخراط في المشروع الأمريكي ؟!
وهو ما لم يفت على كاتب بخبث “توماس فريدمان” والذي خصص مقالا لهذه الصورة ولن أكون مبالغا إن قلت أنه قد كان مذعور الحرف مذهول العبارة .. وحتما لا ألومه !

أما المثل الآخر فهو ما حصل قبل أسابيع قليلة في “البصرة ” عاصمة الجنوب وأكبر مدينة عراقية بعد بغداد.
فقد قامت المحافظة بإغلاق إحدى الدوائر الحكومية لسبب بسيط وهو تفشي الفساد والرشوة لحد توقف مصالح الناس !
الفساد الإداري سمة وميسم يميز الدوائر الحكومية العربية ، وهو قد ينخفض أو يرتفع هنا أو هناك ولكن حتما لا يمكن نفي تغلغله وجذوره ، وحين يصل الأمر بأكبر مدن الجنوب “الهاديء” إلى غلق دائرة حكومية في بلد يضرب الاختلال الأمني كيانه فلا شك أن الأمر تعدى الفساد والرشوة ، وأصبح أقرب إلى عمل العصابات والمافيا !
وحين يكون هذا هو الوضع في أكبر مدينة في الجنوب “الهاديء” فما لذي عساه يجري في المحافظات والمدن الأصغر؟! وسيكون السؤال هنا عن ماذا أنجزت أمريكا في العراق بعد أكثر من ثلاث سنوات على احتلاله سؤالا منطقيا .. ومطلوبا .
أعتقد أن هذين المشهدين أو المثلين يعبران وبجلاء عن حقيقة ما نحن أمامه فإن كان للحكم حيثيات فـالصورة تتشكل من تفاصيل صغيرة ، فليس الشيطان وحده من يسكن في التفاصيل ، فالحقائق أيضا تكمن هناك!

ما يشغل واشنطن فعليا هو ماذا بعد الانسحاب ولم يكن عبثا ولا عفو خاطر أن يصرح الثعلب الأمريكي هنري كيسنجر بأن هزيمة أمريكا في العراق هي هزيمة لأوربا بأكملها !
ملفات كثيرة يجب أن تتم معالجتها فمن سيشغل الفراغ الذي سيحدثه هذا الانسحاب الكبير ودور دول الجوار إضافة إلى هذا الكم الكبير من الأسلحة والمقاتلين .
وعلى عكس ما قد يعتقده الكثيرون فملف المقاتلين والحركات المسلحة على خطورته وتعقيده هو أسهل ما يمكن أن تواجهه واشنطن بعد انسحابها ، فمن خلال متابعة بيانات التنظيمات العسكرية في العراق يمكن ملاحظة أن هذه التنظيمات في غالبها لا تحمل الطابع الأممي في توجهها وإن كان لها لون إسلامي واضح وتعاطف لا ينكر مع القضايا الإسلامية المعاصرة .
فلو نظرنا إلى الجيش الإسلامي في العراق وهو أكثر التنظيمات العراقية قدرة وانضباطية من الناحية العسكرية ويمكن معرفة ذلك من خلال دقة عملياته والقوة التفجيرية المصاحبة لها والتي تثبت أن هذا التنظيم يقف خلفه كوادر كانت ضمن الحرس الجمهوري العراقي .
لم يكن هذا التنظيم في بدايته يستهدف قوات الشرطة والحرس الوطني كونها تحمل الهوية العراقية ، عكس تنظيم القاعدة أو التوحيد والجهاد كما كان يسمى عند بداية نشأته في العراق والذي كان يرى فيها قوات مرتدة يجب قتالها ، ولم يحاول هذا التنظيم توسعة عملياته خارج العراق بعكس تنظيم القاعدة والذي ضرب في قلب العاصمة الأردنية عمَّان .
مشكلة أغلب هذه التنظيمات مع أمريكا هي في احتلالها لأرضهم وفرصة جلب هذه التنظيمات إلى طاولة المفاوضات بعد الانسحاب الأمريكي من العراق ممكنة ، والنجاح في حصر أثر هذه التنظيمات في الداخل العراقي دون وصول نيرانها إلى دول الجوار الحليفة لواشنطن وهو ما يقلق واشنطن أمر وارد .
وإن كانت هناك تنظيمات تجاهر بعدائها لكل من يساند الولايات المتحدة وما لعراق بالنسبة لها إلا ساحة من ساحات الحرب المفتوحة مع الولايات المتحدة وأبرز هذه التنظيمات ولاشك تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين .
لكن يبقى تنظيم القاعدة في النهاية أفرادا يحتاجون إلى حضن شعبي يوفر لهم الأرضية والملجأ ولا أعتقد أن العراق الذي أنهكت أهله الحروب والكوارث يستطيع أن يلعب هذا الدور، إضافة إلى التشويه الإعلامي الذي يحارب به هذا التنظيم تجعل من فرصة نجاحه في أرض غُيب أهلها عن مفاهيم دينهم لفترة طويلة أمرا مستبعدا.

إن الخطر الحقيقي الذي تخشاه أمريكا ليس في تلك التنظيمات المسلحة فهي وعلى خطورتها لها قيادات وكوادر تنظيمية ومصادر تمويلية يمكن تعقبها أو احتواءها ، لــكن حتما لن يستطيع السور السعودي المزمع تشييده ولا الاستخبارات الأردنية و قوى الأمن الداخلي في مصر ولا حتى السي آي ايه من أن تمنع روح الانتصار من السريان في الجسد العربي والإسلامي الغافي خصوصا وأن الأمور في كابول ليست أحسن حالا منها في بغداد .. وهو ما يرعب واشنطن ولندن وباريس وعواصم أخرى وقد يكون لـهذا مقالا آخرا!

كل جيوش العالم لا تستطيع هزيمة فكرة آن أوانها
” فكتور هوجو “

الشبّاك

Archived By: Crazy SEO .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سفر الخروج : العشاء الأخير !!

مرحبا .. أنا اسمي محمد !

الكلام "الذي" يـموت !!